جنازة وجواب


(1)

أخذ ملابسه من على شماعة صينى ووضعها على السرير.
ارتدى البنطلون التركى ووضع قدميه فى الحذاء المصنوع فى الصين مهتما بالشراب ـ فهو الوحيد المصرى بجانب الملابس الداخلية ـ ثم تناول الجاكيت الصينى ايضا وارتداه .. شرب آخر جزء من النسكافية المستورد من كوريا الجنوبية، واطفأ الكمبيوتر متعدد الجنسيات، وأغلق الباب وخرج ..
   عبر أول شارع فى طريقه إلى الشارع الرئيسى، تقابله شمس هادئة وهواء بارد. أشار إلى ميكروباص يابانى متجه إلى التحرير، سيحضر جنازة هناك. هو لا يحب مراسم العزاء ولا يعرف كيف يذهب إليها، لكنه يذهب إلى جنازات الشهداء ..
جلس بجانب الشباك، وأخرج السماعات الصينى ليضعها فى هاتفه الفنلندى .. سأسمع بعض الاغانى الوطنية للشيخ إمام ..أعاد سماع جيفارا مات عدة مرات، متابعا العربات المتدافعة لتمر من ورائهم عربة إسعاف، مرت بجانب نافذته مباشرة. كانت بيضاء، ومكتوب على جانبها إهداء من الشعب اليابانى وعلم اليابان فوق الكلمة..تسابقت العربات لتمشى ورائها.
   وصل الميكروباص بالقرب من ميدان التحرير، نزل ومشى قليلا وهو يفكر فى هذا الولد الصغير الذى قُتل برصاص الشرطة، والرجل الذى اختنق بالغاز المسيل للدموع الامريكى. مشى مع الجنازة ـ التى كانت مهيبة ـ إلى المقابر فى القلعة مرددا معهم "حسبى الله ونعم الوكيل" و "لا إله إلا الله". مرت الجنازة من وسط البلد إلى عابدين إلى القلعة فى تدرج فى الطبقات الإجتماعية وشكل المعيشة من الأعلى إلى الأسفل. قبل وصول الجثمان إلى المدافن علق أحد الجالسين على مقهى تمر من أمامه الجنازة  " إيه الجنازة الطرية دى ! " وهو يتفحص السيدات المارات أمامه.. 

(2)

دخل البيت وكان الجو دافىء. خلع ملابسه وارتدى شورت صنع فى تايلاند وتيشرت من بنجلاديش. وضع رأسه تحت الماء قليلا، ثم اتجه إلى المطبخ ووضع إناء به ماء لعمل الشاى، وبعد بحث طويل عن الكبريت وجد علبة على الارض مكتوب عليها صنع فى الهند. بدأ يتجول فى البيت ويفكر فى اليوم .. ترى فى ماذا كان يفكر وهو فى الصفوف الأولى فى مواجهة الشرطة؟ ماذا بيدى أفعله حتى لا يصبح موته هباءا؟ كيف لم يتعاطف الناس مع الجنازة وكيف استطاع هذا الرجل أن يسخر من الجنازة بهذا الشكل؟ حتى لو كان هذا رأيه لماذا رفع صوته ليسمعنا ؟.. سمع صوت الماء،دخل المطبخ ووضع السكر فى كوب صنع فى الصين، وصبّ الشاى ثم أضاف القرنفل ..

جلس على المكتب و قرر أن يكتب جواب لنفسه أو لشخص مُتخيل يعيش فى 2030 .. بحث عن الورق، مكتبه محاط بالكتب الأجنبية لـ الجامعة. أخذ مجموعة أوراق 
وكتب ...

إلى نفسى بعد 17 عام
أو من يقرأه بعدى ..
مرسل فى 2012 لـ عام 2030

...

أكتب لك
  اكتب لك بقلمى الألمانى مرتديا ملابسى المستوردة جميعها ماعدا الداخلية .. اتمنى أن يجدك هذا الخطاب فى ملابس مصرية كاملة. عدت منذ قليل من جنازة أحد الشهداء الذين قتلتهم وزارة الداخلية بعد الثورة وبعد الفترة الإنتقالية للمجلس العسكرى فى ظل حكم الرئيس محمد مرسى .. اتمنى فى 2030 ألا يكون هناك قوات مكافحة شغب، ألا تصرف الدولة الملايين على الغازات المسيلة للدموع الأمريكية ولا الملابس المدرعة. اتمنى أن تكون ميزانية وزراة الصحة والتعليم والثقافة أعلى من ميزانية وزارة الداخلية .. اتمنى أن تكون تحت حكم مدنى لا عسكرى ولادينى .. ترى ستتغير ثقافة المواطن عنها الآن؟ .. 17 سنة مدة كبيرة جدا، حتما ستتغير.. اتمنى أن يصبح المجتمع واعى، واعى لجهله،واعى لخضوعه، واعى لحقوقه، أن يدرك انه يعيش مستهلك فقط ..

هل المجتمع فى زمانك متحرش ؟ هل عدد السيارات الخاصة فى الشوارع مازال يزداد .. وهل توجد طرق ..أهناك صحراء على جانبى المدينة ؟ هل انتهت الاراضى الزارعية و اصبحت كلها مبانى ؟

احاول أن اتخيل صناعة السينما فـ مصر وقتها.. أمازلت تهتم بالاثارة الجنسية؟ و ماذا عن الادب امازالت الروايات التافهة ذات الاسلوب الركيك تحتل المراتب الاولى من قوائم الاكثر مبيعا ؟ و ماذا عن عدد المكتبات و سعر الكتب أهى مرتفعة ام اضافت الدولة دعما عليها جعلتها متاحة للجميع ؟

وماذا عن المرأة ؟ هنا النظرة الشهوانية فى أعين الرجال والشيوخ وحتى الاطفال .. يكفى أن تمر واحدة  من أمامه فقط - لا يهم عمرها ولا شكلها- حتى تتعلق عيناه بها متابعا حتى ترحل .. 
ترك الخطاب و قام ليفتح الباب. كان أخوه.وكالعادة ليس معه مفتاح باب العمارة. للعمارة باب حديد كبير بمفتاح، لضمان الامان داخل البيت.
صعد إلى البيت سريعا ليلحق الشاى قبل أن يبرد تماما. ظل ينظر إلى الجواب ويفكر حتى ارهق من التفكير.انتهى من الشاى، وأخذ الورقة وطواها،ووضعها فى درج مكتبه ليكملها لاحقا.

تحدث معه أخاه وهو يرتدى ملابسه عن الحفلة التى سيحضرها فـ الاوبرا.. حتى دار الاوبرا المصرية هى فى حقيقة الأمر يابانية، اهدتها لنا اليابان فـ ثمانينيات القرن الماضى بعد ان احترقت الاوبرا القديمة ..
ضاق بالبيت فـ كلّم أصدقائه واتفقوا أن يقضوا بعض الوقت فى قهوة وسط البلد..

(3)

ارتدى ملابسه مرة آخرى ونزل إلى الشارع. لا توجد ميكروباصات، فركب تاكسى إلى اقرب محطة مترو، ليكمل اليوم بحسب الفلوس التى معه. فى الطريق كان الراديو يذيع الاخبار،عدد القتلى فى سوريا وتنديدات الدول الآخرى. تذكر السيدة والطفلتين أمام المسجد بعد صلاة الجمعة حاملين جوازات السفر السورية و طالبين المساعدة. مر بجوار سور جامعة القاهرة، كان ملىء بالرسومات، بعضها لشهداء لم يراهم من قبل. وجد جملة مكررة بطول السور تقول " أين الضباط الاحرار "..آه متى يستقيم هذا الوطن، هل سيستمر طويلا مبدأ من بيده القوة المادية يحكم؟.. تركه السائق فى الدقى. كان الجو جميل فقرر أن يمشى إلى وسط البلد، مر بكوبرى قصر النيل، فتذكر يوم كان العساكر- بقيادة الضباط الاحرار - يجرون وراءه بالعصى الطويلة.. دخل الميدان كانت رائحة الغاز فى كل مكان، كانت خانقة وكان لابد أن يقف من وقت لآخر ليسترد أنفاسه..
أغلب المحال مغلقة والساعة لم تتعدى السابعة بعد..

مر على مقهى كان هو وصديقته السابقة يجلسون فيه، فتذّكر لحاظتهم معا.. السابقة يالها من كلمة سخيفة، تغيرت كثيرا أنا منذ أن كنت معها. لابد من طرد الذكريات والافكار التى غالبا ما تنقلب ضدى.. تحاشى المرور من شارع فيه محل اعتادا أن يمروا عليه.
 جلس قليلا مع اصدقائه.هم يتكلمون عن فرص العمل، والعمل فى مراكز الاتصالات الذى أصبح العمل الوحيد المتاح الآن.
   نزل المطر فاسعده وملاه شجنا.. كانت تحب المطر، ولايهمها أن تبتل ملابسها أو يصيبها البرد ..

وسط البلد حين تبتل شوارعها تصبح أكثر دفئا. الرصيف المقابل للمقهى إذا ابتعدت بخيالك قليلا، ونظرت تجاهه ستشعر إنك فـ أحد الدول الأوروبية، لكن حتما ستفيق سريعا على يد طفل تشد القميص ويقول "ساعدنى بـ أى حاجة .. هات جنيه" ..

بعد كوبان من القهوة، استأذن من أصدقائه وقام. مر على مكتبة على وشك الاغلاق، تفحص الكتب.. لا يوجد جديد.. ابتاع كتابا عن الثقافة والحرية. كان الموجود نسختين نسخة حديثة لدار نشر كبيرة بـ 35 جنيها، وآخرى قديمة لدار نشر آخرى بـ 5 جنيهات .. اخذ الثانية، وانطلق يركب المترو.

(4)

أدار المفتاح فى الباب وصدره يعلو ويهبط بسرعة من طول السلم. دخل البيت، قلع الجاكيت، وجلس يـتصفح الكتاب.. كل كتاب جديد يزيده سعاده.. انقطعت الكهرباء، سب سوء الحظ بصوت عالى، وقام يبحث عن الولاعة الصينى ـ أو الكبريت الهندى أيهما أقرب ـ على ضوء الهاتف الفنلندى. أشعل الولاعة فأضاءت المطبخ، وجد نصف شمعة ..
أخذ طبق معدنى صغير وجلس على السفرة، اشعل الشمعة وأمالها لتصب قليلا من شمعها الذائب على الطبق لتقف عليه. ثبت الشمعة، وتصفح الكتاب مرة آخرى.. كُتب هذا الكتاب منذ عشرين عاما.. تذكر الجواب فجاء به وقرأه مرة آخرى.. تُرى سأقرأه بعد 17 عام على ضوء مصباح يعمل بالطاقة الشمسية أم شمعة ايضا؟.. طوى الجواب، ونام على يديه، وهو ينظر إلى الشمعة..
فكر.. لو أنتهت حياتى الآن ماذا سينتظرنى، أهو عالم آخر أم جنة و نار فقط ؟! ..
حرّك أطراف أصابعه فوق النار، فتحرك لهب الشمعة وحرك خيالات على الحائط والسقف.. النور.. ما هو النور؟. دارت برأسه كل الأقوال المأثورة عن النور.. مر الوقت، وقربت الشمعة من الانتهاء.
ظل يتابعها حتى رقصت الشعلة رقصتها الأخيرة وماتت.. وساد الظلام.

هناك تعليق واحد:

  1. ايه علاقة الجنازة ب الجواب ؟؟

    التفاصيل الكتيرة الصيني الياباني و الهندي و كدا زيادة حبتين فتحس انها مملة

    ايه ارتباطك ب الشاي او القهوة كل مرة :D بس انا بحب الفاصلة اللي ف النص دي
    _________________________________________

    لكن حتما ستفيق سريعا على يد طفل تشد القميص ويقول "ساعدنى بـ أى حاجة .. هات جنيه" الوصف كان رائع بس فجاة اتفصلت...بس هو دا الواقع

    الجواب دا ف تلخيص مشاكلنا كلها

    رقصت رقصتها الاخيرة و ماتت...جميلة اوي النهاية دي

    بس ساد الظلام دا صدفة يعني ولا دلالة ع نظرتك للمستقبل ؟؟
    ______________________________

    بس ف المجمل يعني اعتقد دي اجمل حاجة كتبتها و مستواك علي اوي انهارده


    نقطة اخيرة: كان ليا الشرف اني مشيت ف الجنازة دي,,,اللة يرحم جيكا و كل اللي ضحوا

    Dola

    ردحذف