حازم شحاتة

         ذكرياتى معه تعتبر هى مدخلى إلى الحياة  .. اول هدايا اتذكرها منه كانت كتب صلاح جاهين .. كان يزورنا مرة كل اسبوع او اسبوعين وكل مرة كتاب جديد .. كنت اقرأ الكتاب، واختار قصيدة تعجبنى، واحفظها، وافاجئه بها حينما يأتى .. ويبدأ يُعدل لى نطق الكلمات ويشرح لى معنى القصائد .. ثم علمنى الشطرنج ،ولما وجدنى مهتم اشترى لى كتاب عن الادوار العالمية فى الشطرنج .. وهكذا كانت نوعية هداياه وطبيعة إهتمامه بى عكس باقى العائلة التى لا تهادى إلا بالنقود .. وكان فـ بداية الدراسة يأتى بمجموعة اقلام وكراسات لنا وكنت اخصصها لـ احب المواد لى ..
    
     كان يصطحبنى انا واخوتى ـ مخصوص ـ إلى المسرح.. ولازلت اذكر مسرحية   لن تسقط القدس فـ مسرح الجمهورية ، وعطيل فـ مسرح الهناجر ..

     لازلت اذكر له ايضا حلقات الكارتون العلمى "المدائن العلمية " التى كانت تعرض على قناة الاسرة والطفل وانا فى المرحلة الابتدائية ،ثم قرأتها هى ومجموعة قصص لازلت أقراها حتى الآن تسمى "الف باء" ..
     مسرحياته " ناس النهر" و " نوبة دوت كوم " عن معاناة اهل النوبة والتهجير .. بعض مشاهدها لاتزال فى ذاكرتى رغم صغر سنى وقتها ..

ناس النهر
  
 
    هذه كانت ذكرياتى معه حتى سن الـ 15 تقريبا ..  لم أكن أعرف عنه شىء وقتها غير انه ناقد مسرحى فقط ..
      إلى أن جاء يوم صيفى استيقظت فيه لـ أجد أمى مستيقظة وفزعة ،سألتها ماذا حدث ،قالت لى ان هناك حريق فى مسرح بنى سويف وخالك هناك ،ولا نعلم اى شىء عنه .. وكان مذيع اهم الانباء فى إحدى القنوات ينقل الخبر واعداد الضحايا  تزداد ..  ذهبوا إلى المستشفيات حتى يبحثوا عنه ضمن المصابين  !
بعدها بـ ساعتين او ساعة جاء الخبر .. توفى حازم شحاتة داخل مسرح قصر ثقافة بنى سويف فـ الخامس من سبتمبر  2005.
كانت صدمة لا تحتمل لـ العائلة .. ذهبنا إلى مسجد خاتم المرسلين بالهرم حتى نستقبله
،وهناك كان المشهد مؤلم بدرجة لا توصف .. وجدت الشباب الذى يصرخ ويبكى ويقع ع الارض فـ إنتظار جثمان صديقه .. رأيت الوجوه الواجمة البائسة .. رأيت إحساس القهر والانكسار فى أعين كل الموجودين، و كان الذهول والإنكـار أبطال المشهد ..   
      سيارات الاسعاف تصل إلى المكان، وتعلو الاصوات، وتقترب الاجساد من السيارات .. تعلو الصناديق الخشبية، وتدخل المسجد مع نداء على اسم ساكنها ..
   ودعنا هذا المشهد، وذهبنا  معه الى مدافن العائلة، واحتفلنا به فـ مسيرة لتوديعه وسط هدير الاصوات متمتمة لا إله إلا الله...

     كان فـ الشوارع وقتها دعاية لـ انتخابات الرئاسة .. فلان يبايع رئيس الجمهورية حسنى مبارك  للامن والاستقرار.. لتدعيم الرخاء..  من اجل الكرامة للمواطنين .. من اجل حياة افضل  وهكذا ..  كانت هذه اللافتات ـ التى لا مفر من قراءتها فهى فى كل مكان ـ تضيف مرارة على الموقف، وتسكب الجاز على نار الغضب بداخلنا ...
  
     بعدها بـ سنة على ما أذكر فى نقابة الصحفيين كان حفل لتأبين الشهداء ، وكانت هذه اول مرة ارى فيها نقابة الصحفيين، وارى عساكر الامن المركزى تحاصرها ولا افهم لما هذا الحصار ..

     كان محمد عبد القدوس ممسكا بالميكرفون ويردد الهتافات على سلم النقابة، ونردد وراءه باصوات غاضبة .. وعساكر الامن المركزى ملتفة حولنا بوجوه شاحبة ونظرات لا معنى لها ..ولأول مرة سمعت اغنية حاحا لـ الشيخ إمام على سلم النقابة ولم افهم معناها وقتها ،لكن لحنها والاصوات الدامعة وهى تغنيها افهمتنى انها بكائية ... 

      ادركت يومها حجم الكارثة عندما بدأوا  بـ عرض* اسماء الشهداء وكانوا من عدد من المحافظات واغلبهم فـ ربيع العمر ماعدا عدد من النقاد والاساتذة، ثم بدأوا فى تكريم المصابين .. هؤلاء الذى تسبب الاهمال فى تشويههم...

   بعد ذلك بسنة أخرى كانت مسرحيته نوبة دوت كوم تعرض على مسرح الهناجر فى الاوبرا - التى دخلتها اول مرة معه وانا طفل امدُّ الخطوات حتى الحق به ونلحق سويا بـ مسرحية عطيل - كان الجو ساحرا داخل المسرح .. لم اكن اعرف احدا من الموجودين ولكنى شعرت انى وسط اهلى، وانى معتاد أن اراهم .. كنت اشعر به جالس بجوارى يشاهد مسرحيته وهى تعرض لأول مرة بدونه ...
     بدأت بعد ذلك اتعرف على حازم شحاتة من خلال حكايات الآخرين .. مواقفه معهم وآراءه  .. وبدأت اقرأ كتبه مره أخرى، فوجدت سلسلة عن العلماء العرب لم اعرف بها قبل ذلك ،وسلسلة علمية أخرى تسمى مجموعة دنيا المعرفة ،ومسرح الطفل ،وسلسلة تبسيط النحو للمبتدئين .. قرأتهم العديد من المرات وكنت اتشوق لمناقشته فيما كتب ...
و لكم قلت لنفسى :  يااااه لو كنت بيننا الآن ! 


حازم شحاتة
     رحل حازم شحاتة وانا اخطو خطواتى الاولى فى التعرف على ما حولى ..فرحل قبل ان اجلس معه وافهم منه ،واناقشه فيما قرأت ،واعرض عليه أفكارى ..
     انا اعلم انه لا يهتم ان يحمل شارعنا اسمه او نحتفظ بصورة له فى مدخل عمارتنا او يحمل مكتبى صورته.. ولكن الكثير يحمل آراءه ،ومواقفه فى الذاكرة محفورة ..
     علمنى حازم شحاته ـ بوجوده وغيابه معا ـ الشغف للمعرفة، والتفكير، وحب المسرح ،والوصول بالافكار للآخرين.. تعلمت المقاومة،والتمرد على البديهيات المفروضة علينا .. افقت بغيابه بهذه الطريقة على عدد من الحقائق المزعجة فـ بلدنا ..

بعد رحيل حازم شحاتة اكتشفت معنى ان يكون للإنسـان قيمة وتأثير ..  رأيت معنى ان لا يموت الانسان بالمعنى الكامل ويظل حى فى ذاكرة البشر..


 فلينعم التراب باطيب ما فى الحياة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)
لن ننساكم...


...
ــ كان قاسيا أن تودع محسن مصلحي، كان بشعا أن تودع صالح سعد، مستفزا أن تودع حسن عبده.. كان قاتلا أن تودع حازم شحاتة، وكان وداعهم معا أمر لا يطاق، ثم أن يرحلوا معا وبتلك الطريقة أمر لا هو يطاق، ولا يستوعب، ولا يصدق
http://egyptiansisyphus.blogspot.com/2007/09/blog-post.html
ـــــــ

هناك تعليق واحد: