أرواح معطلة

     نظر فى ساعته، أدرك أنه وقت النزول، ألقى نظرة أخيرة للمرآة وضبط ياقة القميص وابتسم لنفسه ونزل من البيت...
كانت أمام المرآة أيضاً تقف متوترة، غيرت وضع الحجاب على رأسها أكثر من مرة، ثم إلتفتت لتنظر لنفسها من الخلف ودارت دورة كاملة ثم ابتسمت لنفسها ونزلت.. لم ير كلٍ منهما الآخر منذ ثلاث سنوات، وقت طويل ليتغير كلاهما تماماً..

لا يعلم كيف سيدور الحوار بينهما، هو طلب منها اللقاء فوافقت.
 اقترب من المكان وباقى على ميعادهما ربع ساعة؛ فمشى حول المكان فى شوارعه الجانبية يفكر فى ذكرياته معهما لأكثر من أربع سنوات..
كانت تفكر وهى فى طريقها.. ماذا سيقول لى؟ هل سيعتذر؟ يالسخافته إن فعل.. هل سيطلب أن نعود أصدقاء؟ هل أنا مستعدة للحديث معه.. لماذا وافقت إذن؟.. وتذكرت مواقفه السيئة معها وكادت تستدير وترجع من حيث جاءت، لكنها كانت تمشى دون إرادة حقيقية منها فلم تستطع الرجوع.
      رآها قادمة فى فستان أسود وطرحة حمراء، لم يكن رآها فى فستان قبل ذلك.. ابتسم، نظرت له ونظرت فى الأرض وابتسمت، ثم رفعت عينيها فى عينيه مرة أخرى مع زوال الابتسامة من على فمها.. لم يستطع هو سحب الابتسامة من على وجهه.. أراد ان يحتضنها بقوة، لكن خفوت الابتسامة من على وجهها، وعدم مد يدها للسلام عليه وإكتفائها بـ "إزيك؟" و"هنقعد فين؟" منعته.. مشى بجوارها، دارت فى رأسه عدة حوارات ممكنة متبادلة بينهما، استغرقته حتى كاد أن ينتهى الشارع الطويل دون أن يتكلم.
       دارت فى رأسها أسئلة كثيرة، وتحاول منع نفسها من الإستسلام لمشاعر الافتقاد التى تدفعها إلى حضنه، وتدفع يدها دفعاً للإمساك بيده..
      جلسا فى مكانٍ جديد تفاديًا لهجوم الذكريات عليهم.. ظل الجو متوترا بينهما، لم يذيبه سؤاله عن حياتها وشغلها، وسؤالها عن جديده بدورها، ولا التعليقات الساخرة عن المكان أو المشروبات..
      بعد مرور نصف ساعة، والجو مشحون بالتوتر والمشاعر المتضاربة، كانت يدها قريبة من يده، وقلبه تتسارع دقاته وهو يهم بوضع أصابعه فوق أصابعها، كأنه لم يمسك هذه اليد مئات المرات قبل ذلك، كأن لم يألفها كظهر يده تماما...
     نظرت إلى يده الكبيرة ذات العروق البارزة وفكرت للحظة أن تلمسها، لكنه فاجأها عندما وضع يده علي يدها، وحرك أطراف أصابعه على أصابعها كما لو كان يتعرف عليهم لأول مرة.. بهتت ونظرت فى عينيه نظرة طويلة، اغرورقت عيناها بالدموع، وتمسكت بيده ضاغطة عليها.. دموعها والتشبث بيده سحبت الدموع إلى عينيه لتملأها.. تركت يده، فسحبها.. أخرجت منديل ومسحت عينيها، وابتسمت الابتسامة التى يألفها جيدا ابتسامة قلة الحيلة والحزن وسط الدموع، وقالت له عن إذنك وذهبت..

     رأها تخرج من المكان بأكمله، نظرت نظرة أخيرة له وجريت بإتجاه منزلها .. 
انتظرها آملا فى عودتها مرة أخرى.. دارت فى رأسه الأفكار والذكريات وهو يحاول الاتصال بها، يسمع صوت الصفارة التى تعلن عدم الرد، فيضغط ضغطتين سريعتين على زر الاتصال إلى أن يسمع الصافرة مرة اخرى.
     ظل هكذا ساعة، يفكر فى كل ما مرّ وكان بينهما وصوت الصافرة مستمر، إلى أن سمع صوت يخبره أن الهاتف مغلق.
     الذكريات والمواقف تعصف به فتقذفه إلى أقصى اليسار مرة وإلى اليمين أخرى، يشعر بالذنب ثم الخجل، وبعدها يبتسم لذكرى جميلة.
    أخذت سلالم بيتها جريا، تتوقف كل فترة لتمسح دموعها وتكمل. دخلت فألقت بحقيبتها على الأرض وخلعت حذائها ووقفت تبكى أمام المرآة، تموج المشاعر بداخلها لا تستطيع الإمساك بأحدهم وإتهامه إنه سبب بكائها، تزيل دبابيس حجابها وسط نشيج مستمر، تحاول أن تهدأ قليلا وتثبت رأسها كى تضع يدها فى مكانهما تحديدا. بعدها رجعت بقوة للبكاء. فكت فستانها بصعوبة، وأنزلته من على كتفها وصدرها وجلست على السرير تسترجع بعض المشاهد من ذاكرتها وتبكى أكثر، رأسها يكاد ينفجر من الصداع فمدت يدها جانبها إلى زجاجة ماء وشربت، أخذت نفسا عميقا عدة مرات فهدأت قليلا. قامت فأنزلت فستانها وحملته إلى الدولاب، ثم رمت بنفسها على السرير فى بكاء شديد.
تدور المشاهد فى رأسها ..شكله اليوم، وتشبثها بيده، لتأخذها هذه المشاهد إلى كل مشاهد تشبثها به وتركه لها، تنقسم رأسها نصفين ويؤلمها فمها، تحكم الغطاء حولها وتغمض عينيها الواسعة التى تنساب الدموع من جوانبها...
     خرج من المقهى فى بطىء كمن يحمل على صدره حجر، يفكر .. أأخطأت حين طلبت لقائها؟ هل كان ممكنا أن أمنع نفسى؟ تعقدت الأمور بيننا لكنى أصبحت شخصًا جديدا لكن كيف لها أن تعرف وأنا أمامها ليس سوى مجموعة من المواقف والذكريات بحلوها ومرها.. وآه من مرها هذه.. استمر الحديث بينه وبين نفسه حتى وجد نفسه أمام بيتها، وقف طويلاً لا يعرف ماذا يفعل ويشعر بصدره وذراعيه ينجذبان نحو بيتها كما ينجذب الجائع لرائحة الطعام.. هل قادر حضنى على توصيل ما أريده، كرر السؤال مرة أخرى إلى صدره.. هل قادر أنت على توصيل ما أريد أم ستزيد الأمور تعقيدا!.
    جلس على الرصيف المقابل لمنزلها، لايفكر سوى فى صدرها وهو يلامس صدره، فى يده وهى تعانق ظهرها.
    ظل جالساً ساعات، بل أياماً وشهور، جسده قام وانخرط فى الحياة اليومية لكن روحه مازالت على جلستها فى إنتظارها من يومها. لم تنزل هى من المنزل، بل لم تقم من سريرها بالرغم من أن جسدها فعل...