المكتبة المسكونة

       اليوم شديد الحرارة .. سأنتظر حتى تنخفض الشمس قليلا وانسحب من الجلسة العائلية هذه ـ قبل أن أفقد الجزء الباقى من عقلى ـ وأذهب إلى المكتبة .. المكتبة تغلق أبوابها الساعة السابعة مساءا .. انتظرت حتى جاءت الخامسة وأنفلت من العائلة وذهبت إلى عائلتى الخاصة .. دخلت المكتبة الساعة السادسة والنصف .. بمجرد أن أدخل الشارع الذى به المكتبة أشعر بنسمة هواء خفيفة  تهتز لها الأشجار وتنسينى صخب العربات و رائحة العوادم .. بناء قصير يتكون من ثلاثة أدوار حوله حديقة وأشجار ويطل على النيل.. وعند دخولى من باب هذا المبنى اقشعر بدنى من قوة المكيفات و هنا نسيت تماما جلسة العائلة بتعليقاتها وأفكـارها بل نسيت كيف جئت من هناك إلى هنا.. أعدت ما معى من كتب استعرتها وانتهيت منها..


    دخلت قسم الأدب .. وقبل أن أبحث عن كتب لكى اقرأها لم أنسى أن احيى نجيب محفوظ وبهاء طاهر وخيرى شلبى و أقبل رأس مصطفى محمود واربت على كتف توفيق الحكيم واومأ برأسى ليوسف ادريس، وبعدها اكون قد نسيت معاناة الأسبوع كله ليس اليوم فقط.. اتجول بين الارفف كـ الراقص .. منتشى بعدد الكتب المهتم بها .. من الروايات إلى الشعر والدراسات .. من التاريخ إلى السياسة ومن جلال امين إلى هيكل .. وأكاد اقفز من الفرح عندما أجد كتاب كنت اتمنى أن اقرأه منذ فترة وبحثت عنه فلم أجده ..
   فجأة انخفض الضوء تدريجيا وقامت فتاة ـ كانت جالسة خلف شاشة كمبيوتر تساعد رواد المكتبة ـ لتغلق جزء من باب قسم الادب لتنبه الجالسين انه حان موعد الاغلاق .. استنكرت اغلاقهم فى هذا الموعد المبكر ونسيت اننى جئت متأخرا ولم انتبه إلى الساعة ناهيك عن الهاتف الذى انساه مكتوم الصوت فـ جيبى ولكم فاتتنى مكالمات هامة وانا فى المكتبة ... اكمل جولتى كما لو ان شيئا لم يحدث  اقترب من رفوف الكتب .. افحص الاسماء وانزل بركبتى حتى ارى آخر صف ممسكا بكتابين سوف استعيرهم ..

  مرت الفتاة بجانبى وانا بين ارفف الكتب كانت الاضاءة ضعيفة لكنى حافظ اماكن كتب هذا الرف جيدا فيوجد فـ الاعلى كتب جلال امين والاسفل كتب محمد عمارة .. لم ترانى الفتاة فمرت واطمئنت ان لا احد بالداخل فأغلقت الباب .. انتبهت للحظة واكملت ما بدأته ..
   خمس دقائق مرت الى ان سمعت صوت باب الدور باكمله يغلق متزامنا  مع اغلاق الانوار فى الدور كله .. ماعدا ضوء خفيف يتيح للمار فى الشارع ان يعرف ان هذه مكتبة ولكنها مغلقة الآن .. حاولت ان استخدم هاتفى وجدتنى بدون رصيد وليس معى رسائل طلب الاتصال (مع ان هذا وقتها) ..أخذنى الخوف وحاولت ان افتح الباب ولكن لا فائدة ..
استسلمت لمصيرى وقلت لنفسى سأنتظر حتى الصباح مع كل هذه الكتب .. 

     اخذت كتاب من كتب نجيب محفوظ وعزمت على ان انتهى منه فى جلسة واحدة .. جلست تحت المصباح المضاء واخذت اقرا .. بعد 40 صفحة قمت فجئت بكرسى آخر ووضعته امامى لــ اضع قدمى عليه .. غفوت قليلا ..

    افقت على صوت اقدام .. لحظات لكى استجمع اين انا ثم تملكنى الرعب .. لا اريد ان اقم وارى من هناك .. صوت الاقدام تقترب .. فقمت من دون تفكير واختبأت وراء رف كتب فى اقصى ركن فى المكان .. جسدى كله يهتز من دقات قلبى القوية .. سمعت صوت الباب وهو يفتح فاهتزت اعصابى حتى كدت ان اقع ..
   وجدته قادم بخطوات واثقة فاقشعر بدنى بقوة .. كان نجيب محفوظ فى بدلة صيفية رمادية وفى يده سيجارة وفى الآخرى ولاعة .. وقف فى منتصف القاعة واشعل السيجارة و أخذ مجموعة اوراق لم الحظ انه يحملها و جلس فى ركن بعيد وبدأ يكتب ... تسمرت مكانى لا اعرف المدة .. وفكرت  ان اقوم واتكلم معه .. لكنى سمعت صوت أقدام قادمة من الناحية الاخرى .. فرفعت عينى إلى نجيب محفوظ وجدته فى مكانه .. احكمت الاختفاء وترقبت ..


   ظهر هيكل ممسكا بمجموعة من الصحف.. تحركت من مكانى حينما اقترب منى كى لا يرانى .. ولكنى عندما وقفت وجدت امامى مباشرة باولو كويلو يقلب صفحات كتاب .. تراجعت خطوتين فزعا فاصطدم جسمى بعمود للكتب الانجليزية بشدة فوقع محدثا صوتا عالى للغاية .. نظرت له وقلبى يخفق ..استدرت لاواجههم فوجدت أحدا لم ينتبه .. مازال نجيب يدخن سجارته وباولو ناظرا فـ كتابه وهيكل يعبث بالصحف .. 

 
اخذت ادور حولهم لم ينظر إلى أحد .. كأنهم لا  يرونى .. اذهب الى القاعة الاخرى اجدها ممتلئة بالاشخاص .. اميز بينهم خيرى شلبى و توفيق الحكيم و سحر الموجى ورضوى عاشور والابنودى .. اجد حلقة يعلو منها الصوت اقترب منهم استطيع ان اتعرف على امل دنقل و نجيب سرور .. اصبح المكان مزدحما  .. اخرج من هذه القاعة الى الممر الرئيسى اجد شخصين يندمجان فـ النقاش اعتقد ان احدهم جورج أورويل .. ادخل الى مكانى الاول مرة اخرى اجد اشخاصا اخرى فى المكان .. وجدت محمد المنسى قنديل ومحمود عوض والمخزنجى وصنع الله إبراهيم ..
وجدت زينب الغزالى و سيد قطب فى ملابس السجن يمرون .. وجدت حلقة حول شخص يرسم اقتربت وجدته ناجى العلى حوله مجموعة تعرفت على أحمد مطر وغسان كنفانى ..


  
لمحت المسيرى جالسا على كرسى ويقف بجانبه فهمى هويدى ..  بجوارهم شخص جالس على الارض فى عباءة كبيرة وحوله العديد من الكتب والمخطوطات. اعصر رأسى حتى اتعرف عليه وبعد جهد اجده الكواكبى ..  أخذت ادور فى المكتبة من القاعات الى الممر وكل مرة اجد اشخاصا اكثر .. جلال امين و يوسف زيدان .. شيئا ف شيئا اصبح المرور بينهم مستحيلا ..
  احاول أن استمع إليهم وهم يتكلمون ويتناقشون .. لا اميز شيئا من حديثهم .. حاولت مرة اخرى المرور إلى القاعة الكبرى وجدت الباب مسدودا بالاشخاص  بعضهم جالس على الارض والاخر منهمكا فى الحديث.. حاولت ان امر وجدت اشخاصا قادمون من خلفهم فـ سدوا الباب تماما .. تراجعت ونظرت خلفى وجدت اشخاصا ورائى فى شبه نصف دائرة مقتربين منى ..
   اصبحت فى الوسط تماما بين حوالى 30 كاتبا .. حاولت أن أدفع أحدهم وأمر فدفعنى فى صدرى مرتين .. اصطدمت بمن هو خلفى فجاء آخر وألقى بكوب ماء فى يده على وجهى وسط تعبيرات أوجه عديدة ولا صوت يصدر استطيع تميزه ..

     فجأه رأيت امامى رجل فى رداء لبنى والفتاة التى اغلقت علىّ الباب .. مستلقى على الارض تماما بجانب الرف التى مرت عليه الفتاة فلم تلاحظنى .. كان بين ايديها كوب فارغ وكان وجهها مفزوعا ..
ــ إيه يا عم خضتنا عليك
ــإيه اللى وقفك فى الضلمة بس

      واخذوا يسألونى ماذا حدث بالضبط ؟ استجمعت شتات اعصابى وذاكرتى وكدت ان انقل لهم ما حدث .. لكن وجدتهم يقولوا أن مجموعة كتب من أعلى الرف وقعت علىّ وأن لولا الصوت المزعج المصاحب لوقوعها ما كانت الفتاة فتحت الباب مرة اخرى لترى ماذا هناك ..
ـ ده انت رعبتنى .. حرام عليك
     ابتسمت و قمت مستندا عليهم .. وجدت الرف مائلا قليلا ومجموعة كتب على الارض .. مررت بـ القاعة وجدت كل شىء فى مكانه .. التفت الى مكانى لمحت على الكرسى رواية نجيب محفوظ التى كنت أقرأها !

       خرجت من المبنى وجدت الهواء الدافىء فـ مقابلتى .. احسسنى أنى لازلت هنا على أرض الواقع .. نظرت فى ساعتى وجدتها السابعة و خمس دقائق .. ضحكت بصوت عالى وخرجت إلى الشارع واخترت أن أمشى بجانب النيل حتى الجيزة .. وهنا كنت قد نسيت السنة باكملها ...
    ادرت رقبتى ونظرت بإتجاه المكتبة وجدتها ساكنة وبينما أدير وجهى للطريق لاحظت شيئا يتحرك .. رجعت ببصرى مرة أخرى وجدت شخصا أعلى البناء يشير إلىّ بيده مودعا .. كان نجيب محفوظ مرة اخرى !

هناك تعليقان (2):

  1. حمد الله عالسلامة يا مصطفى :D
    أحييك على الصياغة و انتقاء الالفاظ و بالطبع الخيال .. بانتظار المزيد :)

    ردحذف
  2. الله يسلمك يا محمود :D
    شكرا يا صديقى وانا فـ انتظار آرائك :)

    ردحذف